الصين: تحديث عسكري… وقيود بنيوية تكشف فجوات الجاهزية

في كل مناسبة رسمية تستعرض فيها الصين قدراتها العسكرية، يبدو المشهد استثنائياً: صواريخ بعيدة المدى تمتد فوق عربات ضخمة، وحدات عسكرية بأعداد هائلة تتحرك بانضباط صارم، ومقاتلات شبحية جديدة تظهر كرمز لبلد يسعى لإعادة رسم موازين القوة العالمية.

ويبدو جيش التحرير الشعبي، وفق هذا المشهد البصري، وكأنه تجاوز مرحلة الجيش البري التقليدي إلى قوة حديثة متعددة الأذرع، تتطلع إلى العمل بعيداً عن السواحل الصينية. هذا الانطباع يتماهى مع خطاب القيادة الصينية، ولا سيما تصريحات الرئيس شي جين بينغ الذي جعل من شعار “جيش قوي لعصر جديد” محور رؤيته للنهضة الوطنية.

لكن خلف هذا الاستعراض المهيب، تشير دراسات صادرة عن مؤسسات بحثية مثل RAND، CSIS، وJamestown Foundation، بالإضافة إلى تقارير رويترز، إلى صورة أكثر تعقيداً. فالتحديث يجري بسرعة لافتة، لكنه يجري داخل بيئة مؤسسية مثقلة بالضغوط السياسية، وفي ظل غياب شبه كامل عن اختبارات القتال الحقيقية. وبينما نجحت الصين في بناء منصّات عسكرية جديدة وقادرة من حيث الشكل، لا تزال قدرتها على الاستخدام المتكامل والفعّال لهذه القدرات في بيئة صراع عالية الكثافة موضع نقاش واسع بين الخبراء.

بهذا المعنى، لم تعد المسألة تتعلق بما تملكه الصين من أسلحة، بل بقدرتها على تحويل هذا المخزون الهائل إلى قوة قتالية مستقرة وموثوقة، ذات جاهزية عالية ومؤسسية متماسكة. وهو ما يدفع إلى سؤال أكثر أهمية: هل البنية السياسية والتنظيمية داخل الجيش الصيني قادرة فعلاً على إنتاج جيش محترف، قادر على التكيف تحت الضغط؟

أين تكمن التحديات العملية؟

بيئة قيادة تخضع لاهتزازات مستمرة

منذ عام 2015، وفي سياق إعادة هيكلة كبرى أشرف عليها الرئيس شي، دخل الجيش الصيني في موجة مطوّلة من حملات التحقيق والتطهير تحت عنوان “مكافحة الفساد”.

 ورغم أن معالجة الفساد كانت ضرورة فعلية داخل المؤسسة العسكرية، فإن ما تبع ذلك اتخذ طابعاً سياسياً واضحاً. فقد طاولت الإقالات شخصيات من الصف الأول، خصوصاً داخل “قوة الصواريخ”، وهي أهم فرع استراتيجي في الجيش الصيني. وفي كثير من الحالات، تتم الإقالات بصمت، وتختفي الشخصيات القيادية من المشهد دون تفسير واضح.

هذا الاضطراب القيادي لا يعني فقط تغيير أسماء في المناصب، بل يترك أثراً عميقاً على البرامج طويلة الأمد التي تتطلب استمرارية ومعرفة تراكمية. فمشاريع تحديث الترسانة النووية، وبرامج الصواريخ فرط الصوتية، وتطوير أنظمة القيادة والسيطرة، جميعها مبنية على مسار معرفي طويل لا يمكن استبداله كل عام أو عامين. وعندما تأتي قيادة جديدة، تميل إلى تجميد ملفات سابقتها أو إعادة فحصها بدافع الحذر السياسي.

وبذلك، ينتقل الخوف من الخطأ إلى عمق المنظومات التي تحتاج أصلاً إلى جرأة في الاختبار والتجريب.

وتصف مؤسسة Jamestown هذا المناخ بأنه “انقطاع داخل السلسلة المعرفية”، وهو توصيف يلتقط إحدى أخطر مشكلات التحديث في الصين: وجود قوة مالية وصناعية كبيرة، لكن داخل بيئة تنظيمية تعيق التراكم المعرفي اللازم للقدرات الاستراتيجية.

فجوات تقنية تقيّد الأداء رغم التقدم الصناعي

لا يمكن التقليل من قدرة الصين الصناعية. فهي تنتج سفناً حربية بأعداد تتجاوز ما تنتجه الولايات المتحدة سنوياً، وطائرات مسيرة أصبحت منافساً فعلياً في أسواق الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا. إلا أن الإنجاز الصناعي لا يعني تلقائياً أن الأنظمة المنتجة جاهزة للاستخدام الفعّال داخل منظومة عمليات مشتركة.

أحد أبرز الأمثلة يظهر في الطائرات الشبحية J-20، التي تعتمد على محركات لم تثبت بعد قدرتها على مضاهاة المحركات الأمريكية أو الأوروبية من حيث قوة الدفع والعمر التشغيلي. وتشير تقارير استخباراتية غربية إلى حاجة هذه المحركات إلى صيانة دورية مكثفة، ما يقلل من قدرة المقاتلة على تنفيذ عمليات طويلة أو مستمرة.

وفي المجال البحري، حققت الصين قفزة عددية كبيرة، لكنها ما تزال تواجه مشكلة الضجيج في غواصاتها النووية، وهو معيار جوهري في حرب الأعماق. فالغواصات الأعلى ضجيجاً أسهل في الرصد والتتبع، ما يحدّ من فعاليتها في الردع البحري بعيد المدى.

وتزداد الصورة تعقيداً عند الحديث عن “دمج الأنظمة”. فالصين تنتج الصاروخ والطائرة والرادار والسفينة، لكنها لم تُتقن بعد الربط البرمجي والعملياتي الذي يسمح لهذه المنظومات بالعمل بشكل متناغم ومتكامل. وتشير تحليلات CSIS وRAND إلى أن ضعف هذا التكامل يعني وعياً ظرفياً أقل دقة، واستجابة أبطأ، وتنسيقاً محدوداً في العمليات المشتركة. وهو ما يضع حدوداً واضحة لقدرة الصين على تنفيذ عمليات عالية التعقيد تشبه ما تطبقه جيوش الناتو.

نقص التجربة القتالية وتكاليف غياب الفشل البنّاء

لم يخض الجيش الصيني نزاعاً كبيراً منذ أكثر من أربعة عقود. وفي المقابل، بنت الجيوش الغربية خبراتها من خلال عمليات طويلة ومكلفة في بيئات متنوعة،وفي غياب هذا النوع من التجارب، تعتمد الصين على تدريبات داخلية محكمة ومنضبطة، لكنها في الغالب تدريبات “مضمونة النتائج”. ويشير باحثو RAND إلى أن هذه البيئة التدريبية لا تتيح مساحة كافية للاختبار الحقيقي للقدرات، لأن الفشل يُنظر إليه كإخفاق سياسي، وليس كمرحلة ضرورية في عملية التعلّم العسكري.

ومع أن الصين أجرت مناورات واسعة حول تايوان، فإن الخبراء الغربيين يرون أنها لم تُظهر بعد قدرة مقنعة على تنفيذ عمليات مشتركة واسعة النطاق في ظروف تنافسية، خصوصاً عمليات الإنزال الجوي والبحري المعقدة. ويضاف إلى ذلك اعتماد الصين جزئياً على الشريك الروسي في بعض القدرات مثل النقل الجوي الاستراتيجي، وهو مؤشر غير مباشر على فجوة لوجستية لم تُغلق بعد.

ما أهمية ذلك لصنّاع القرار في الخليج؟

هذا التحليل لا يهدف إلى التقليل من حجم الصين أو من قدراتها المتنامية، بل إلى وضع التحديث العسكري الصيني في سياق عملي يهمّ قادة الدفاع في السعودية وعُمان، خصوصاً في مرحلة تتجه فيها دول الخليج إلى ترسيخ استقلالها الدفاعي وتنويع مصادرها.

فالصين توفر منتجات عسكرية جذابة من حيث السعر والسرعة، وتعرض نماذج دون شروط سياسية. لكن التجارب التي وثقتها دول في آسيا وإفريقيا تُظهر وجود تحديات في الاستدامة التشغيلية، سواء في توفير قطع الغيار أو تحديث البرمجيات أو الحفاظ على جاهزية الأنظمة المعقدة لسنوات طويلة. لا يكفي النظر إلى السعر الأولي، لأن المعايير الحقيقية تشمل الاعتمادية، والجاهزية، وقدرة المنظومة على الاندماج في بيئة عمليات معقدة.

كما أن أنظمة الصين ليست مدمجة بطبيعتها مع بيئات عملياتية تعتمد على الشراكة مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وهذا يخلق تحدياً مباشراً أمام الدول التي تعتمد على عمليات مشتركة أو على منظومات دفاعية متعددة الجنسيات، كما هو الحال في الخليج.

وتبرز نقطة ثالثة تتعلق بالرؤية السعودية والعُمانية لبناء قدرات صناعية محلية: فالمشاريع التي تحتاج إلى نقل تكنولوجيا حقيقي، وبناء معرفة داخل المؤسسات الوطنية، تتطلب شريكاً يقدم شفافية كاملة ودعماً طويل الأمد، وهو ما لا توفره الصين عادة في صفقاتها العسكرية، التي تبقى أقرب إلى “توريد منصة” منها إلى “شراكة معرفية”.

وبذلك، يتضح أن قراءة التحديث العسكري الصيني ليست فقط تحليلاً لقوة دولة كبرى، بل أيضاً درساً عملياً حول كيفية تقييم الشراكات الدفاعية. فالمسار الأكثر أماناً هو التعامل مع العروض الصينية من خلال معايير اختبار واضحة: الاعتمادية، التكامل، الدعم اللوجستي، وسجل الأداء تحت الضغط. هذه المعايير— وليس الانطباعات البصرية أو الأسعار—هي ما يجب أن يوجّه قرارات التسليح في بيئة استراتيجية معقدة كبيئة الخليج.

نقلا عن صحيفة نبض السعودية

عمر حرقوص – صحفي متخصص بالشؤون الاستراتيجية

صحيفة عكاظ اليوم ، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة السعودية، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار العالمية و المحلية، الاقتصاد، تكنولوجيا ، فن، أخبار الرياضة، منوعات و سياحة.

اخبار تهمك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *