ثقافة انعدام الثقة في الجيش الصيني: حدود التحديث العسكري

دخلت الصين في الأشهر الأخيرة مرحلة أكثر جرأة في سباقها نحو التحوّل إلى قوة عسكرية عالمية. فإطلاق حاملة الطائرات الجديدة «فوجيان»—الأكبر والأكثر تطورًا في تاريخ البحرية الصينية—إلى جانب سلسلة المناورات الواسعة التي أجراها جيش التحرير الشعبي حول تايوان وفي بحر الصين الجنوبي، أثار موجة جديدة من النقاش داخل الأوساط العسكرية والاستخبارية حول حقيقة قدرة الصين على ترجمة توسّعها العسكري إلى قوة عملياتية فعّالة.

وفي خضم هذا الزخم، تصبح الحاجة ملحّة للعودة إلى البنية الداخلية للجيش الصيني، وليس فقط إلى معدّاته وأرقامه. فجيش التحرير الشعبي، رغم حجمه الهائل وتطوره السريع، يتميز بخصوصية نادراً ما نجدها في جيوش كبرى أخرى: فهو ليس جيش الدولة، بل جيش الحزب الشيوعي الصيني. الولاء فيه لا يتجه نحو الدستور أو الأمة، بل نحو الحزب وأمينه العام عبر اللجنة العسكرية المركزية.

هذا الارتباط البنيوي أنتج ثقافة مؤسسية تقوم على الرقابة أكثر من الثقة، وعلى الانضباط الأيديولوجي أكثر من الكفاءة المهنية—ثقافة تضع السياسي فوق العسكري، والمفوّض السياسي فوق القائد الميداني. ومع سعي الصين لبناء جيش حديث قائم على الذكاء الاصطناعي، والقيادة الشبكية، وعمليات الأسلحة المشتركة بحلول عام 2049، تبرز معضلة مركزية:

كيف يمكن بناء جيش حديث داخل منظومة تقوم جوهريًا على الريبة المتبادلة؟

لقد أظهرت التجارب العسكرية في القرنين الماضيين أن الجيوش التي تعمل ضمن منظومات قيادة مركزية صارمة—تقدّم الولاء السياسي على المبادرة التكتيكية—غالبًا ما تواجه مشكلات حادة عند انتقالها من التدريب إلى القتال الحقيقي.

ففي الحرب الصينية–الفيتنامية عام 1979، عانت الوحدات الصينية من بطء اتخاذ القرار بسبب انتظار التعليمات من القيادة العليا، ما أدّى إلى تعطّل العمليات الميدانية وارتفاع الخسائر.

وفي حرب أكتوبر 1973، كشفت التقارير السوفييتية أن الأنظمة المعتمدة على «الأوامر المغلقة» كانت أقل قدرة على التكيّف مع اضطرابات الميدان مقارنة بالجيوش التي تمنح قادتها هامشًا أوسع من حرية المناورة والقرار.

كما تُظهر دراسات حديثة حول حرب جورجيا 2008 والحرب في أوكرانيا 2022 أن الجيوش ذات الثقافة المركزية الصارمة تميل إلى الالتزام بالخطة الأصلية حتى بعد فقدان صلاحيتها، خشية تجاوز السلسلة القيادية أو اتخاذ مبادرة قد تُعدّ خروجًا عن العقيدة التنظيمية.

أولاً: الجذور التاريخية لثقافة الحذر والرقابة

منذ الثورة الشيوعية عام 1949، التزمت القيادة الصينية بالمبدأ الأساسي الذي وضعه ماو تسي تونغ: “الحزب يوجّه البندقية، ولا ينبغي للبندقية أن توجّه الحزب.” هذا المبدأ—الذي ما زال يُذكر في الكتيّبات السياسية الخاصة بجيش التحرير الشعبي حتى اليوم—حوّل الجيش إلى أداة في يد الحزب، لا إلى مؤسسة وطنية مستقلة.

ويشير عدد من الباحثين، منهم ديفيد شامبو في كتابه المرجعي «تحديث الجيش الصيني»، إلى أن هذا النظام جعل من الإشراف السياسي جزءًا بنيويًا من عمل الجيش، من خلال زرع مفوضين سياسيين في كل مستوى من مستويات القيادة العسكرية، لضمان الانضباط الأيديولوجي ومراقبة درجة الولاء.

نتيجة لذلك، أصبح جيش التحرير الشعبي قوة منضبطة، لكنه مقيد بغياب الثقة الأفقية بين الضباط. وغالبًا ما تُقيّم القرارات بناءً على مدى انسجامها مع العقيدة الحزبية أكثر من قيمتها العملياتية. ويصف محللون عسكريون صينيون هذا الوضع بأنه “الولاء المُراقَب”—حيث تُقاس الولاءات لا بالكفاءة المهنية أو روح المبادرة، بل بالطاعة المطلقة للسلطة السياسية.

إن استمرار هذه البنية يفسّر سبب خشية العديد من الضباط ارتكاب الأخطاء أكثر من رغبتهم في الابتكار، وهو ما يعزز ثقافة الحذر ويعقّد جهود التحديث العسكري.

ثانياً: المقارنة مع النموذج الأمريكي

إذا كان الجيش الصيني نموذجاً للانضباط العقائدي، فإن الجيش الأمريكي يمثل في المقابل نموذجاً للثقة المؤسسية والمهنية.

ففي الولايات المتحدة، يُنظر إلى الجيش على أنه مؤسسة وطنية مستقلة تستمد شرعيتها من الدستور، لا من حزب أو زعيم. الولاء هنا ليس أيديولوجياً بل قانوني ومهني، يقوم على احترام النظام الديمقراطي المدني الذي يخضع له القادة العسكريون. كما أن الثقة في الجيش الأمريكي تُبنى من خلال الخبرة، والمبادرة تُكافأ، والمساءلة قائمة على الأداء لا على الانتماء. بجانب امتلاك ضباط الميدان صلاحية اتخاذ القرار ضمن حدود واضحة، لأن ثقافة الجيش تفترض أن الضابط المدرب يمتلك القدرة على التقدير الذاتي عند غياب التوجيه المباشر. في المقابل، المركزية الصينية الصارمة تجعل كل قرار حساس يحتاج إلى موافقة من القيادة العليا، ما يبطئ الاستجابة العملياتية ويقيد روح الابتكار. هذا إلى جانب ما ذكر أعلاه عن الولاء للحزب والأشخاص.

علاوة على ذلك، لا يقف الفرق بين الجيشين عند البنية القانونية، بل يمتد إلى طبيعة الثقة ذاتها. فالثقة في الجيش الأمريكي تُفترض مسبقاً وتُسحب عند الخطأ، أما في الجيش الصيني فهي محجوبة مسبقاً ولا تُمنح إلا بعد ولاءٍ طويل الأمد. ولهذا السبب، تبدو الجيوش الغربية أكثر مرونة في الحروب الحديثة التي تتطلب سرعة القرار وتكامل الأفرع، بينما يبقى الجيش الصيني أسرع في الانضباط منه في التفاعل الميداني.

ثالثاً: آثار ثقافة انعدام الثقة على التحديث العسكري

يُقوّض ضعف الثقة داخل المؤسسة العسكرية الصينية مشروع التحديث الذي يقوده شي جينبينغ. فعلى الرغم من التقدّم الكبير في التصنيع والتكنولوجيا، تبقى الفاعلية العملياتية مقيدة بعوائق تنظيمية وثقافية عميقة.

وتتجلى هذه العوائق في أربعة مجالات رئيسية:

  1. ضعف التنسيق بين الأفرع العسكرية

تُعيق المركزية المفرطة وتنافس الولاءات بين القوات البرية والبحرية والجوية عملية تطوير عقيدة عملياتية موحّدة. فكل فرع يتبع مباشرة للجنة العسكرية المركزية، ما يخلق فجوات أفقية في الاتصال والتكامل. ويشير تقرير مركز CNA لعام 2021 حول “التوجيهات الخاصة بالعمليات المشتركة” إلى أن تطبيق العقيدة المشتركة في الجيش الصيني ما يزال غير واضح وغير متسق، وبعيداً عن معايير الجيوش الحديثة.

  1. تردّد القيادات الميدانية

يتجنب الضباط اتخاذ قرارات حاسمة دون الحصول على إذن مسبق خشية التعرض للعقاب. وفي الحروب التي تعتمد على سرعة المبادرة—مثل العمليات السيبرانية والبحرية—يشكّل هذا التردد نقطة ضعف استراتيجية. ويوضح تقرير القوة العسكرية الصينية الصادر عن وزارة الدفاع الأمريكية لعام 2024 أن الضباط الصينيين ما زالوا يفتقرون إلى سلطة التفويض اللازمة لاتخاذ قرارات آنية، مما يحدّ من تطوّر مفهوم “القيادة بالمهمة” ويقيّد المبادرة التكتيكية.

  1. تأثير حملات مكافحة الفساد على الكادر العسكري

منذ 2013، أطاحت القيادة الصينية بعشرات الجنرالات تحت شعار «تنظيف الجيش». إلا أن هذه الحملات فاقمت مناخ الشك داخل صفوف الضباط، بحيث أصبح كل منهم ينظر إلى الآخر بريبة. النتيجة هي بيئة يسودها الخوف أكثر من الثقة. إضافة إلى ذلك، أدّت الإقالات الواسعة إلى خسارة الجيش خطوط خبرة يصعب تعويضها، خصوصاً في أفرع حساسة مثل قوات الصواريخ. ويحذّر تقرير CMPR 2024 من أن موجة الإقالات الأخيرة تسببت في تعطيل جداول التحديث الخاصة بعام 2027، وهو أحد أهم الأهداف المرحلية للجيش الصيني.

  1. اختناقات المعلومات داخل المنظومة

يتطلب التحوّل نحو «جيش ذكي» شبكات معلومات مفتوحة بين القيادات والوحدات الميدانية. لكن الرقابة السياسية، والفلاتر الأمنية الصارمة، تحول دون ذلك، فتحوّل تدفق المعلومات إلى مسار أحادي الاتجاه من الأعلى إلى الأسفل. هذه البنية تتناقض مع متطلبات الحرب “المؤلْمنة” (Intelligentized Warfare) التي تعتمد على الوعي اللحظي بالميدان وتبادل البيانات بشكل مرن. ويؤكد تقرير SWP لعام 2025 أن الثقافة المعلوماتية داخل الجيش الصيني ما تزال هرمية ومغلقة، ما يعيق الشفافية المطلوبة لعمليات القيادة الشبكية والتشغيل البيني بين الأفرع.

رابعاً: بين الولاء والانفتاح — المفارقة الصينية الكبرى

تجد الصين نفسها اليوم أمام مفارقة بنيوية معقّدة: فكلما شدّدت قبضتها لضمان الولاء والانضباط السياسي، تباطأت عملية التحديث؛ وكلما منحت المؤسسة العسكرية هامشًا أكبر من الحرية التنظيمية والمبادرة، ازداد القلق من فقدان السيطرة. فالانتقال نحو «قوة ذكية» لا يقوم فقط على التطور التكنولوجي، بل يتطلب مناخًا من الثقة المعلوماتية والتنظيمية—وهو شرط يصعب تحقيقه داخل منظومة سياسية تقوم على الانضباط الجمعي والطاعة المركزية.

نظريًا، قد ينجح جيش التحرير الشعبي في إنتاج أدوات ردع متقدمة، مثل الصواريخ الفرط صوتية والذكاء الاصطناعي العسكري؛ لكن من دون تحوّل ثقافي حقيقي، ستظلّ هذه القوة ذات طابع عمودي، تعتمد على التوجيهات الفوقية أكثر مما تعتمد على المبادرة الميدانية.

في أنظمة الدفاع الجوي الحديثة—خصوصًا في الجيوش الخليجية—تشكّل الثواني الفاصل بين الاعتراض والفشل. فالمشغّل الميداني قادر على تمرير هدف منخفض الارتفاع وسريع المناورة من الرادار إلى منصة الإطلاق فورًا، من دون انتظار سلسلة طويلة من الموافقات، لأن طبيعة النظام العملانية تفترض تفويضًا واسعًا وثقة متبادلة بين الوحدات.

أما في البنية الصينية القائمة على مركزية القرار والثقافة منخفضة الثقة، فيميل الضباط إلى التردد ورفع المعلومات عموديًا قبل اتخاذ أي إجراء. هذا البطء يحوّل منظومة دفاع جوي معقّدة إلى «وحدات منفصلة» تعمل ببطء وتنسيق محدود، ويرفع احتمالات فشل الاعتراض أو وقوع نيران صديقة، ويجعل دمج الصين في شبكات دفاعية مع حلفاء محتملين أكثر صعوبة.

لذلك، قد تمتلك الصين جيشًا ضخمًا ومتطورًا تقنيًا، لكنها تظل أقل قدرة على خوض عمليات متعددة المجالات تتطلب قرارات موزعة وتدفقًا سريعًا للمعلومات بين الوحدات.

خامساً: الانعكاسات على توازن القوى الآسيوي

تترك ثقافة انعدام الثقة داخل الجيش الصيني أثرًا مباشرًا على توازن القوى الآسيوي، إذ تُضعف قدرة بكين على التحرك السريع في البيئات المعقدة مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي، حيث تُعد سرعة اتخاذ القرار عنصرًا حاسمًا. ورغم أن الصين تمتلك ترسانة متطورة وحضورًا بحريًا متناميًا، إلا أن الفجوة بين القيادة والميدان—الناتجة عن المركزية الصارمة والخشية من المبادرة—تحول دون ترجمة هذه القوة إلى فعالية عملياتية حقيقية. هذا الخلل يمنح الولايات المتحدة واليابان والهند ميزة استراتيجية، إذ يدرك خصوم الصين أن جيشها قادر على الردع، لكنه أقل قدرة على خوض عمليات مشتركة متعددة المجالات تتطلب تفويضًا واسعًا وتدفقًا سريعًا للمعلومات. في المحصلة، تبقى فجوة “الثقة المؤسسية” عقبة بنيوية أمام صعود الصين العسكري، تحدّ من قدرتها على الانتقال من قوة كامنة إلى قوة فاعلة.

نقلا عن موقع دفاع العرب

اللواء ماجد القيسي – خبير ومحلل عسكري وأمني

صحيفة عكاظ اليوم ، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة السعودية، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار العالمية و المحلية، الاقتصاد، تكنولوجيا ، فن، أخبار الرياضة، منوعات و سياحة.

اخبار تهمك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *