الفساد البنيوي وتآكل الموثوقية… أزمة عميقة في قطاع الدفاع الصيني وانعكاساتها الدولية
تحاول الصين ترسيخ صورتها كقوة عسكرية صاعدة ذات قدرات متطورة، إلا أن سلسلة من التحقيقات والتقارير الدولية تكشف عن مفارقة جوهرية تتمثل في جهاز بيروقراطي ضخم يروّج لإنجازاته، فيما يخفي نقاط ضعف بنيوية عميقة، تتجلى في فساد مؤسسي واسع، وضعف في مراقبة الجودة، واعتماد كبير على التكنولوجيا الأجنبية، مع تراجع ملحوظ في ثقة الأسواق الدولية بالصناعات العسكرية الصينية.
هذه العوامل مجتمعة تُضعف جاهزية الجيش، وتحدّ من قدرة الصين على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، كما تفرض مخاطر تشغيلية ومالية على الدول المستوردة للسلاح الصيني. فالمشكلة ليست ظرفية، بل هي سمة بنيوية في نظام يضع الحزب فوق القانون ويستخدم آليات المحاسبة كأدوات سياسية.
وتكتسب هذه المخاطر أهمية خاصة بالنسبة لدول الخليج العربي، حيث ترتبط المنظومات الدفاعية ببيئات تشغيل قاسية، ووتيرة جاهزية عالية، وهو ما يجعل أي خلل في الجودة أو الدعم اللوجستي عامل تهديد مباشر للأمن الوطني، لا مجرد إشكال فني أو تجاري.
الفساد أزمة بنيوية في قطاع الصناعات العسكرية الصينية
يشير تقرير صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” إلى موجة من التحقيقات في قضايا فساد داخل المؤسسة العسكرية الصينية، أدّت بين يوليو وديسمبر 2023 إلى إقالة 15 ضابطاً رفيعاً ومسؤولين في قطاع الصناعات الدفاعية. ويبرز ضمن هذه القضايا سقوط الأدميرال مياو هوا من موقعه في اللجنة العسكرية المركزية، في امتداد لسلسلة سابقة شملت إطاحة نائبَي رئيس اللجنة شو تساي هو وقوه بوشيونغ عامي 2014 و2015.
كذلك أقالت الصين ثلاثة من كبار مديري شركات الصناعات العسكرية المتخصصة في تكنولوجيا الصواريخ. بجانب إقالة تسعة مسؤولين عسكريين بارزين، بينهم قادة سابقون لقوة الصواريخ ومسؤولون في وحدات مشتريات الأسلحة. ما يعكس عمق الأزمة داخل المؤسسة العسكرية والصناعات الدفاعية الصينية.
بالنسبة لدول الخليج، التي تعتمد على استقرار سلاسل التوريد والدعم طويل الأمد، يثير هذا المستوى من الاضطراب المؤسسي تساؤلات حول موثوقية الالتزامات الصينية في أوقات الأزمات، وحول أولوية الزبائن الخارجيين مقارنة باحتياجات الجيش الصيني نفسه.
“المسؤولون الذين أُقيلوا في ليسوا أشخاص عاديين، بل يديرون أهم أصول الصين العسكرية”، قال ضابط استخبارات هندي كبير. ما يثير شكوكاً جدية حول جاهزية جيش التحرير الشعبي، “من الصعب شن حرب عندما تكون قوة الصواريخ لديك مليئة بالفساد”، أضاف الضابط الهندي. فيما أشار دبلوماسي آسيوي إلى أن إقالة الجنرالات قد تزيل بعض الأفراد، لكنها لا تعالج ثقافة الفساد المتجذرة منذ عقود. مضيفاً، “إن الفساد سيستمر ما لم يُصلَح نظام التعيينات والترقيات العسكرية من جذوره”.
وفي السياق الخليجي، حيث تُبنى العقود الدفاعية على افتراض الاستمرارية والاستقرار المؤسسي، فإن وجود ثقافة فساد مترسخة في منظومات القيادة والترقية يضاعف مخاطر الاعتماد على مورد يصعب التنبؤ باستقراره المؤسسي على المدى المتوسط.
فالصناعات العسكرية الصينية تعاني من انتشار الفساد، سواء في مناقصات الشراء أو التربح أو ممارسات تفضي إلى اختلاس أموال عامة، حسب زميل المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاثام هاوس)، ورئيس وحدة دراسات الصين في مركز الإمارات للسياسات، أحمد أبو دوح.
يردف أبو دوح لموقع “نبض السعودية”، تتعامل القيادة الصينية مع هذه الأزمة المزمنة انطلاقاً من عدة معطيات، أولها إدراك قيادة الحزب الشيوعي، واللجنة العسكرية المركزية، بانتشار الفساد وشن حملات تطهير متتالية لمواجهتها (تحت إشراف مباشر من الرئيس شي، وشملت مسؤولين كبار بما في ذلك وزراء دفاع)، ومسار إعادة هيكلة الجيش بشكل كامل القائم منذ عام 2015، والذي بات يحقق تقدما ملحوظا.
إضافة إلى ذلك، فإن عقود المشتريات للأسلحة الصينية تلزم بكين من الناحية القانونية بالالتزام بملاحق الصيانة الدورية، حسب أبو دوح. لكن التحديات في هذا المجال تكمن بشكل أساسي في كون الصين لاعب مستجد في سوق السلاح العالمي، وكثير من شركات التصنيع العسكري لا تزال تطور قدرات الصيانة والخدمات على نطاق واسع يغطي التزاماتها التعاقدية. لكن لا أعتقد ان هذه الممارسة ناجمة عن تجاهل متعمد.
قوة الصواريخ الصينية مركز الضعف الاستراتيجي
يوفّر تقرير البنتاغون سياقاً أوسع لفهم طبيعة هذه القضايا، التي تُصنَّف ضمن إطار “الفساد المسيّس”، عبر ممارسات يمكن وصفها بـ “الغسيل القذر” داخل النظام. وتشمل هذه الممارسات، الرشوة المنهجية، الدفع مقابل النفوذ، شراء الولاءات، استخدام ملفات الفساد كسلاح في صراعات النخبة السياسية. وعليه، هذه الظواهر ليست استثناءً، بل سمة بنيوية في نظام يضع الحزب فوق القانون، ما يجعل المؤسسة العسكرية نفسها عرضة لتقلبات الصراع السياسي الداخلي.
بدورها نقلت بلومبرغ عن تقييم استخباراتي أمريكي، أن الفساد داخل قوة الصواريخ الصينية بلغ مستويات خطيرة، شملت ملء صواريخ بالماء بدلاً من الوقود واستخدام أغطية صوامع غير صالحة للإطلاق. فيما يرى مركز الإمارات للسياسات أن قوة الصواريخ الصينية ستظل بيئة خصبة للفساد لسببين رئيسيين، أولهما، هيمنة الشركات الحكومية على أبحاث وتصنيع الصواريخ، حيث تنتشر الاختلاسات والممارسات غير القانونية بين هذه الشركات والجنرالات المشرفين عليها. وثانيهما، ضعف التفتيش والاختبارات العملياتية على الصواريخ الباليستية وأسلحة الردع، ما يقلل فرص كشف الفساد مقارنة بالاختبارات المكثفة المعتمدة في الولايات المتحدة.
عليه، فإن استعادة الثقة في جاهزية القوة القتالية قد تتطلب وفق بعض التقديرات بين 5 و10 سنوات، ما يضع قوة الصواريخ في موقع ضعف عملياتي خلال هذه الفترة.
قطاع الصناعات الدفاعية، أزمة جودة وسمعة
وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، انخفضت صادرات الصين من الأسلحة بنسبة 23% بين 2013–2017 و2018–2022. حيث تراجعت إيرادات أكبر الشركات الدفاعية الصينية بنسبة 10%. خلالها سجلت NORINCO انخفاضاً حاداً بلغ 31%. ويأتي ذلك نتيجة فضائح الفساد في المشتريات، وإلغاء عقود دفاعية كبرى، وضعف مراقبة الجودة. بجانب اعتماد مفرط على الإنتاج السريع على حساب الاختبار والتطوير.
ويطرح هذا التراجع مفارقة لافتة في السياق الخليجي، إذ تميل بعض الدول ذات القدرات المالية العالية إلى دراسة منظومات صُممت أساسًا لأسواق أقل تطلبًا، حيث تُعطى الأولوية للسعر على حساب الاعتمادية طويلة الأمد.
ومن جانبها، تواجه عدة دول مستوردة للسلاح الصيني مشاكل خطيرة في جاهزية المعدات وجودتها. فقد أبلغت نيجيريا عن أعطال متكررة في مقاتلات F‑7 أدت إلى حوادث وتحطم طائرات، واضطرت لإعادة معظم ما تبقى منها إلى الصين للصيانة. وفي ميانمار، تبين أن مقاتلات JF‑17 تعاني من رادار ضعيف، وغياب صواريخ بعيدة المدى، ومشكلات هيكلية، ما جعلها غير صالحة للقتال رغم سنوات من دخولها الخدمة. كما واجهت بنغلاديش أعطالاً في طائرات K‑8W بعد وقت قصير من تسلمها.
كما اشتكت باكستان، أكبر زبون للسلاح الصيني، من ضعف أداء السفن F‑22P وعيوب خطيرة في أنظمة صواريخ FM‑90، بما في ذلك فشل مستشعرات الأشعة تحت الحمراء ورادارات التتبع. وفي الجزائر، تحطمت طائرات CH‑4 المسيّرة خلال التجارب، ما أثار شكوكاً حول موثوقيتها.
وفي بيئة الخليج، حيث تعمل القوات الجوية والبحرية بمعدلات تشغيل مرتفعة وتحت ظروف مناخية قاسية، فإن أعطال من هذا النوع قد تؤدي إلى استنزاف مالي وتشغيلي يفوق بكثير أي جاذبية سعرية عند التعاقد.
فالصين تجذب المشترين بأسعار منخفضة وتمويل ميسر، لكن الأعطال تكشف تكاليف خفية تشمل نقص قطع الغيار، ضعف التوافق التقني، وقلة الخبرة المحلية في الصيانة. كما يظهر الموردون الصينيون ضعفاً في تحمل المسؤولية، ما يدفع بعض الدول للبحث عن دعم من أطراف ثالثة، كما فعلت ميانمار بالاستعانة بفنيين باكستانيين.
وبحسب المنسق السابق للحكومة اللبنانية لدى اليونيفيل، العميد منير شحادة، إن تراجع مبيعات الصناعات العسكرية الصينية ليس ادعاءً إعلامياً، بل واقع موثّق ببيانات رسمية وقرارات حكومية، ويرتبط أساساً بحملة مكافحة الفساد التي أطلقتها بكين لإعادة هيكلة القطاع ورفع كفاءته، رغم كلفتها الاقتصادية القصيرة المدى. في المقابل، يتداخل هذا التراجع مع سياق جيوسياسي وإعلامي أوسع، إذ تصاعدت الحملات الغربية، خصوصاً الأميركية، التي تستهدف سمعة السلاح الصيني، ولا سيما بعد تفوق القدرات الباكستانية المدعومة بتسليح صيني في المواجهات مع الهند، ما أثار قلقًا ودفع إلى تكثيف التشكيك الإعلامي رغم غياب أدلة تقنية.
يضيف العميد شحادة لموقع “نبض السعودية”، ويندرج في الإطار نفسه التوجّه الإيراني نحو الصين للحصول على مقاتلات J‑10C وتكنولوجيا عسكرية متقدمة، وهو مسار تعتبره واشنطن تحديا لتوازنات سوق السلاح، خصوصًا في الشرق الأوسط. ويتقاطع ذلك مع الصراع الاقتصادي-السياسي بين الصين والولايات المتحدة منذ الولاية الأولى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وما رافقه من حملات إعلامية استهدفت صورة الصناعات الصينية ذات القيمة الاستراتيجية.
وبناءً على ذلك، يبدو أن التراجع في المبيعات يعود أساساً إلى عوامل تنظيمية داخلية، فيما يشير تزامنه مع الهجمات الإعلامية الغربية إلى أن معركة السمعة والثقة أصبحت عنصراً محورياً في المنافسة الدولية على سوق السلاح، إلى جانب التكنولوجيا والأسعار والنفوذ السياسي، حسب شحادة.
لكن في المحصلة، فإن الفساد البنيوي والمشاكل العميقة في مراقبة الجودة، الناتجة عن الإنتاج السريع وقلة الاختبارات، يقوضان موثوقية السلاح الصيني، ويشكلان مخاطر تشغيلية واستراتيجية ومالية على الدول المستوردة. كما تخفي الأسعار الصينية المخفضة لمعداتها العسكرية وعرضها للتمويل تكاليف خفية، لاسيما عند حدوث أعطال في العتاد. إضافة للتكاليف الباهظة الخاصة بالافتقار إلى التوافق التكنولوجي مع المعدات العسكرية الصينية. حيث تفتقر غالب البلدان إلى موظفين ذوي خبرة وتدريب مناسب لحل تلك المشاكل. ولا سيما عبر تكاليف دورة الحياة وصعوبات الإدامة وقطع الغيار.
الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية، نقطة ضعف استراتيجية
تعتمد الصين بشكل كبير على الموردين الأجانب في المحركات البحرية ومحركات الطائرات، التي شكّلت أكثر من 55% من وارداتها العسكرية بين 2017 و2022، عبر محركات أوكرانية وفرنسية وألمانية، بينما تعتمد الغواصات النووية على تكنولوجيا روسية. وقد أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تقليص قدرة كييف على تزويد الصين بالمحركات، كما أن قدرة موسكو على تقديم تكنولوجيا متقدمة قد تتراجع رغم اعتمادها المتزايد على بكين. وفي ذات الوقت، يواجه الموردون الأوروبيون ضغوطاً أمريكية لوقف تزويد الصين بمكونات حساسة، وهو ما ظهر عندما منعت ألمانيا تصدير محرك لغواصة صينية مخصصة لتايلاند، ما أدى إلى إلغاء الصفقة.
في هذا السياق، قالت الباحثة في الشؤون الصينية والآسيوية، د. تمارا برو، خلال حديثها لموقع “نبض السعودية”، تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً على دول عديدة لمنعها من شراء السلاح الصيني، كما حدث مع مصر، في ظل قلق واشنطن من التطور التكنولوجي والعسكري الصيني. ويتجلى هذا القلق أيضاً في القيود الأمريكية على تصدير الرقائق الإلكترونية إلى الصين، بذريعة حماية الأمن القومي، إلا أن الدافع الأعمق يتمثل في القلق من تسارع التطور التكنولوجي والعسكري الصيني. فهذه التقنيات تُعد أساساً للتفوق في مجالات الذكاء الاصطناعي، والصواريخ المتقدمة، والأنظمة العسكرية الحديثة.
تتمة لما سبق، تواجه الصين مشاكل ناتجة عن إرث صناعتها الدفاعية المبني على النموذج السوفييتي، حسب الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين. هذا الإرث ترك بنية مجزأة ومفرطة في السرية، مع فصل صارم بين البحث والإنتاج، ما يعيق الكفاءة والابتكار. كما أن معاهد أبحاث الدفاع الصينية خاضعة بقوة لـ التخطيط المركزي، ويؤدي التنظيم المعقد والصراعات الداخلية إلى إبطاء العمل وجعله غير متوافق مع متطلبات الإنتاج السريع والجودة العالية. ورغم تسارع جهود التحديث العسكري في بكين، فإن دمج الأنظمة المتنوعة والمعقدة عبر هيكل قيادة إقليمي واسع لا يزال يمثل تحدياً كبيراً.
خاتمة
لا تُعد مشكلات السلاح الصيني حالات معزولة، بل تعكس قطاعاً دفاعياً يقضمه الفساد من مرحلة التصميم حتى التصدير، ما أدى إلى تراجع موثوقية المنتجات الصينية، ودفع ويدفع عدداً من الدول إلى تقليص مشترياتها أو التحول لموردين آخرين. حيث تتحمل الدول المستوردة تبعات استراتيجية وتشغيلية خطيرة، إذ تخلق الأنظمة المعيبة فجوات في القدرات خلال الأزمات، وتتحول “الكلفة المنخفضة” إلى عبء مالي كبير بسبب الإصلاحات وقطع الغيار والاعتماد على متعاقدين خارجيين.
كما أن الاعتماد المفرط على مورد واحد ذي سجل مشكوك فيه يحد من استقلالية القرار الدفاعي ويعرض الدول لضغوط سياسية ومخاطر في سلسلة التوريد. لذلك يصبح تنويع مصادر التسليح والاتجاه نحو موردين أكثر شفافية وموثوقية، إضافة إلى تعزيز الصناعات الدفاعية المحلية، ضرورة استراتيجية.
وفي الحالة الخليجية، لا يتعلق الأمر بمقارنة أسعار أو تنويع موردين فحسب، بل بضمان أن تكون المنظومات الدفاعية قادرة على العمل بكفاءة عالية في أسوأ السيناريوهات، دون ارتهان سياسي أو تشغيلي. من هنا، تصبح إعادة تقييم الاعتماد على السلاح الصيني مسألة سيادية بقدر ما هي تقنية.
وفي الخلاصة، فإن تلاقي الفساد البنيوي وضعف الجودة في قطاع الدفاع الصيني يشكل تهديداً طويل الأمد للدول المستوردة، ويجعل إعادة تقييم الاعتماد على السلاح الصيني خطوة حتمية لضمان دفاع وطني أكثر مرونة وأماناً.
نقلا عن موقع نبض السعودية
عمار جلو – كاتب وباحث
صحيفة عكاظ اليوم ، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة السعودية، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار العالمية و المحلية، الاقتصاد، تكنولوجيا ، فن، أخبار الرياضة، منوعات و سياحة.
